نقد تحقيق "البرهان في أصول الفقه"

نقد تحقيق "البرهان في أصول الفقه"

لإمام الحرمين أبي المعالي الجويني

(المتوفى 478 هـ)

قام بهذا التَّحقيق للكتاب الدُّكتور عبدالعظيم الديب، الأستاذ المُساعِد بجامعة قطر، وحصَل به على درَجَة الدُّكتوراه من كليَّة دار العُلوم بجامعة القاهرة، واستَغرَق فيه - على حَدِّ قوله - سبع سنوات.

طُبِعَ الكتاب في مجلَّدين على نفَقَة صاحِب السموِّ الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني أمير دولة قطَر في سنة 1399هـ، وقدَّم للكتاب فضيلةُ الشيخ عبدالله الأنصاري، مدير الشؤون الدينيَّة بوَزارة التربية، وتَمَّ توزيعُ الكتاب في المؤتمر العالمي الثالث للسِّيرة والسنَّة النبويَّة المُنعَقِد في الدوحة في محرَّم 1400هـ.

قدَّم الدكتور عبدالعظيم الديب لتحقيقه بالتعريف بشخصيَّة إمام الحرمَيْن، وبكتاب "البرهان"، وببيان منهَجِه في التحقيق.

ونُضِيف في بَيان أهميَّة الكتاب ثَناء ابن خلدون عليه، واعتِباره من أحسَن كُتُبِ الأصول على طريقة المتكلِّمين (المقدمة طبعة بيروت ص455).

وقد حَثَّ العلاَّمة أحمد تيمور (باشا) - رحمه الله - على تحقيق كتاب "البرهان"، وقال: إنَّه من أندَرِ كتب الأصول وأهمِّها (مقالته عن نوادر المخطوطات وأماكن وجودها، بـ"مجلة الهلال" سنة 29)، فجَزَى الله مُحقِّقه وناشِرَه خيرًا عميمًا.

ويعنُّ لنا إبداءُ بعضِ المُلاحَظات على المقدمة والتحقيق:

قرَّر الدكتور الديب أنَّ سبب تسمية الجويني بإمام الحرمين تَرجِع إلى أنَّه جاوَر بمكَّة والمدينة (مقدمة "البرهان" صـ37)، ومستندًا في ذلك إلى ابن خلكان في "وفيات الأعيان"، وتَحقِيق المسألة أنَّه أمَّ بالفِعل بالحرَم المكيِّ والحرم النبويِّ ("تاريخ المظفري"؛ لابن أبي الدم)، مخطوط بمكتبة محافظة الإسكندريَّة ق 179، و"تاريخ ابن الوردي" أحداث سنة 478 هـ)، وليس كلُّ مَن جاوَر بالحرمين أمَّ بهما، وليس كلُّ إمامٍ بالحرمين جاوَر فيهما.

اعتَبَر الدكتور الديب أنَّ الإمام الجويني اتَّجَه اتِّجاهًا صُوفيًّا أصيلاً في نهاية حَياته نتيجة لما درَس من العُلوم (المقدمة ص29)، واستَنَد على بعض فقرات من "البرهان" (الفقرات 51 - 55).

والحقيقة أنَّ "البرهان" ليس بيقينٍ آخِر إنتاج إمام الحرمين، فقد استَنَد إليه في كتابه "غياث الأمم" الذي قُمنا بتحقيقه بالاشتِراك مع الدكتور مصطفى حلمي - الأستاذ المساعد بكليَّة دار العلوم بالقاهرة، وليس "غياث الأمم" أيضًا هو آخِر أعماله، فقد أشارَ إلى كتاب آخر سيُؤلِّفه بعنوان "مدارك العقول"، وهو ليس الجزء الوارد في "البرهان".

ومن الإنصاف أنْ نقول: إنَّ هذا الرأي الذي أبْداه الدكتور الديب سبقَتْه الدكتورة فوقيَّة حسين (الأستاذة بكليَّة البنات بالقاهرة والمعارة للعمل بجامعات المغرب)، ولا أعتَقِد أنَّه يَخفَى عليه ذلك، وأستَبعِد عدم قِراءته لكِتابها: "إمام الحرمين"، وكان مقتضى الأمانة العلميَّة أنْ يُشِير إليها.

والواقع أنَّنا لا نُشارِكهما الرأيَ، وتطمئنُّ قلوبنا إلى أنَّ الإمام الجويني ماتَ سلفيًّا في نهاية حَياته، ورجَع عن عِلم الكَلام الذي اشتهر به، كما رجَع عن الصوفيَّة، ولا أدَلَّ على ذلك من قول إمام الحرمين نفسه: "اشهَدُوا على أنِّي رجعتُ عن كُلِّ مَقالةٍ يُخالَف فيها السَّلَف، وأنِّي أموتُ على ما يموت عليه عَجائِز نيسابور"؛ (السبكي: "طبقات الشافعية الكبرى" ج5: 185).

ركَّز الدكتور الديب على أنَّ إمام الحرمين كان مُدافِعًا عن السنَّة عند مُناظَرته (ص39) وناصِرًا لها (ص40).

وغفَل - أو تغافَل - أنَّ الإمام الجويني لم يكن دَقِيقًا في مَواطِن الاستشهاد بالحديث النبوي، وقد اعتَرَف الجويني نفسُه بأنَّه ليس له دِرايةٌ بالحديث؛ إذ استَدَلَّ بحديثٍ في كتابه "الغياثي" وقال: "ليطلب الحديث طالبه من أهله"، (ص79).

ويُؤكِّد ما نقول ما أورَدَه مُؤرِّخ الإسلام الإمام الذهبي بقوله: "وكان أبو المعالي مع تبحُّره في الفِقه وأصُوله لا يَدرِي الحديث".

اعتَبَر الدكتور الديب "كتاب المجتهدين" الجزء الثالث من "البرهان" (المقدمة ص50)، واستدلَّ على ذلك بأنَّ الجويني ذكَر في خطَّة كتابه أنَّه سيعرض بعد النسخ للفتوى، وصفات المفتين، والاستفتاء، وما على المستفتين، وأوصاف المجتهدين، وأنَّه يختم الكتاب بالقول في تصويب المجتهدين (المقدمة ص51)، بينما هو ضَمَّ كتاب "البرهان" بباب النسخ.

والحقيقة أنَّ "المجتهدون" تُعَدُّ رسالة مستقلَّة للإمام الجويني، وليست من "البرهان" وإنْ كانت امتِدادًا له، فقد جرَى إمامُ الحرمين في مؤلفاته على أنْ يُحدِّد مضمون كتابه، ثم يعدل في نهايته عن بعضه ويخصُّه بتأليفٍ آخَر؛ فمثلاً في كتابه "العقيدة النظاميَّة" قد وعَد في مقدمته أنْ يَتناوَل موضوع الإمامة (رئاسة الدولة الإسلاميَّة)، ولكنَّه اعتَذَر في نهايته عن الوَفاء بوَعدِه، وأنَّه سيُخصِّص لهذا الموضوع كِتابًا يُهدِيه للوزير نظام الملك الطوسي، وكان الوَفاء بالوعد "غياث الأمم"، وأنهى كتابه الأخير بوعدٍ آخَر لكتابٍ بعنوان "مدارك العقول".

فقد جرَى إمام الحرمين على ذلك، حتى كادَتْ أنْ تكون تلك صِبغة، وقد اعتَمَد الدكتور الديب في تحقيق هذا الجزء على نسخة تركيا فقط، وقد رأيتُ بعيني رأسي في معهد المخطوطات التابع لجامعة الدول العربيَّة بالقاهرة تخصيص رسالة المجتهدين مُنفَرِدة ومستقلَّة؛ أي: هناك نسخة أخرى، ويحمل الميكروفيلم الخاص بها رقم 1237/2.

سلَك الدكتور الديب في التحقيق منهج المقارَنة بين المخطوطات وتخريج الأحاديث والتعريف بالأعلام، وكان حَرِيًّا به أنْ ينهج مَنهَجًا أكثر عُمقًا بتَخرِيج النصوص وبَيان مَدَى تأثُّر الجويني بالسابقين عليه وتأثيره في اللاحقين.

ويَكفِي أنْ نشير إلى أنَّه لو اتَّبع هذا المنهج لتبيَّن له أنَّ كتاب "البرهان" نَخَلَه تلميذُ إمام الحرمين الإمام الغزالي المتوفَّى 505هـ، وأنَّ هذا الكتاب بعنوان "المنخول من تعليقات الأصول"، وقد قام الدكتور حسين هيتو بتحقيقه ودراسته، وطُبِعَ في دمشق عام 1390هـ-1970مـ، وهو يَكاد يكون الموجز الدقيق للبرهان بألفاظ إمام الحرمين نفسه، فالإمام الغزالي يقول في مقدمة كتابه هذا: "وتَمام المنخول من تعليقات الأصول بعد حذف الفُضول، وتحقيق كلِّ مسألة بماهيَّات العقول، مع الإقْلاع عن التَّطويل، والتِزام ما فيه شِفاء الغليل، والاقتِصار على ما ذكَرَه إمامُ الحرمين في تعاليقه من غير تَبدِيل وتَزييد في المعنى وتعليل...".

وتبدو قيمة هذا الكتاب من أنَّه نسخةٌ غيرُ مُباشِرة من الكتاب المحقَّق.

ولا تقدَحُ هذه الملاحظات في جُهْدِ المحقِّق، فلا يعلَمُ جُهدَ التحقيق إلاَّ من أحبَّه وصبَر عليه وكابَد من أجله، وابتَغَى به وجهَ الله في عصرٍ طَغَتْ فيه رَغبَةُ العُلَماء والباحثين من الدُّنيا ومَتاعها، وسهلت لهم سُبل الوُصول إليها من غير هذا الطَّريق، بل تَكاد تقِف في سبيل الجهود الفردية من نشْر التراث حَوائِل تعجِزهم من المُضِيِّ معه، وأشهَدُ بالحق لأنَّني من أوَّل المُستَفِيدين من تحقيق "البرهان"؛ للإمام الجويني، فجَزَى الله كلَّ مَن أسهَمَ فيه خيرًا.